Tuesday, January 7, 2014

ثــــــــــــــورة 1919



ثــــــــــــــورة 1919
كان ذلك ليلة اليوم الثامن من شهرمارس 1919، وكنت ذلك اليوم مسافرا الى قاهرة لألقي محاضرات بالجامعة المصرية صبيحة 9 من مارس. وكان النبأ بالقبض على الباشوات الأربعة (سعد زغلول وحمد الباسل واسماعيل صد يقي ومحمد محمود) واعتقالهم قد سرى في أنحاء العاصمة وانتقل منها بسرعة البرق الى أنحاء الأقاليم. وكان الجميع، انجليزا ومصريين وأجانب ، ينتظرون ما عسى أن يكون ردّ الفعل لهذاالقرار الذي اتخذته انجلترا إزاء من ينادون باستقلال مصر.
فلما أصبحت يوم 9 من مارس ذهبت في الساعة التاسعة الى الجامعة، وكان مقرّها يومئذ بميدان الأزهار، فاذا هي خلا ليس فيها طالب واحد. وصعدت الى الطابق الأول. فألقيت محمد بيك وجيه سكرتير الجا معة بغرفته المطلة على الميدان.
وكانت سراي البستان حيث يقيم السلطان فؤاد تجاور الجامعة وتطل عليها نوافذ مكتب وجيه بك. فلما دخلت عليه حيّاني وعلى ثغره ابتسامة وقال: أن طلبة الجامعة وطلبة جميع المدارس العليا والثانوية مضربون احتجاجا على اعتقال رئيس الوفد وأعضائه.
جلست اليه أتحد ث معه ، واشرب القهوة عنده. واننا لنتحدث إذ رأينا من النافذة منظرا يأخذ بالأبصار . فقد امتلأ ميدان الأزهار كله بالمتظاهرين  من جميع الطبقات ، طلابا وعمّالا وأفندية، وفي أيدي كثيرين منهم فروع أشجار ضخمة اقتلعوها من الشوارع التي مروا بها . واذاهم يميلون على عربات الترام التي تمرّ بالميدان يحطمونها ويقلبونها. هنالك قلت – لقد اطلق الحيوان الناطق من جميع قيوده.
ولم تمض لحظات بعد ذلك حتى رأينا قوة من الجنود تحاصرالبستان مخافة ان يد خل المتظاهرون أفنيته .ولبث المتظاهرون بميدان الأزهار، ثم اند فعوا الى ناحية شارع قصرالعيني.
فلما خلا الميدان تركت الجامعة ، وذهبت أتصل باخواني في الحزب الديمقراطي وأصدقائي من غيرهم ، لأقف على ما أستطيع الوقوف عليه من انباء الموقف ولم تغرب شمس ذلك اليوم حتى جاءت الأنباء بأن الاضطراب ساد البلاد المصرية كلها ، من الإسكندرية الى أسوان ، وأن ثورة عجبا انتشرت في كل مكان ، وأن خطوط السكة الحديدية  أتلفت وكثيرا من خطوط التلغراف قطعت ، وأن الانتقال من العاصمة واليها أصبح مستحيلا، وأن الأوامر العسكرية صدرت بحظرالانتقال الاّ بترخيص خاص، وأنني ، وقد قطت السكة الحديدية ، لا أستطيع العودة الى المنصورة حيث تركت زوجي وحيدة مع خدمها ، لاتعرف شيئا من أخباري ولا أعرف شيئا من أخبارها لأن المواصلات التليفونية بين مصر والمنصورة قد قطعت كذلك .
شغلت وحدة زوجي بالمنصورة بال أبويها، وكانت نازلا عندهما ، وشغلت كذلك بالي. فلم يكن في مقدور أي منا أن يتصل بها بالتليفون أو بالتلغراف أو بأية وسيلة أخرى. فما ترى يكون شأنها هنالك في جولا ندري مدى اضطرابه بأ سباب الثورة ؟
لكن اشتغال بالي لم يستأثر بشيء قلّ أو كثر من تفكيري ولا من مجهودي، في هذا الوقت العصيب الذي كانت الأنباء ترد فيه بين ساعة وأخرى بوقوع اشتباك بين الجنود الانجليز والمتظاهرين المصريين بالقاهرة، اشتباك تجسم الأنباء نتائجه من القتلى والجرحى. بل لقد قيل إن الجيش المصري والجيش البريطاني اشتبكا، ثم تبين أنها شائعة لا تستند الى الواقع.
وكانت أنباء الأقاليم تثير أشدّ الاهتمام والدهشة، وكان اهتمامنا ودهشتنا لها يزيدان كل يوم عن اليوم الذي قبله.
تمردت بعض قرى الجيزة القريبة من القاهرة، فعاقبهاالجنود الانجليز باستباحتها وحرقها. وانتشرالخبر بذلك، وترتب على انتشاره أن أحاط الأهالي المصريون بجماعة من الجنودالبريطا نيين وقف بهم القطار بمحطة فقتلوهم ومثلوابهم أشنع تمثيل وشربوا من دمائهم.
وأعلنت بعض الجهات النائية بعض الشيء  عن القاهرة استقلالها، واحتل شبان من المحامين دواوين الحكومة، وتولّوا بأنفسهم أمور الحكم والمحافظة على الأمن والنظام . وأضربنا نحن المحامين في انحاء القطر جميعا احتجاجا على تصرفات السلطة البريطانية وكنا نذهب كل صباح الى منزل سعد زغلول باشا حيث يجتمع أعضاء الوفد، نتلقى من هناك انباء ما حدث بالأمس، ونرتّب عليه نتائجه في تصرفاتنا.
وكذلك اندلع لهيب الثورة وامتد في كل مكان. ولم يقتصر على المتعلمين ولا على الشباب، بل اهتزت به جميع القلوب وتحرّقت استجابة له الجوانح والأفئدة. حتى السيدات اللواتي كن يومئذ محجبات ، أبى عليهن شعورهن الوطني أن يبقين غيرمشتركات في هذه الثورة الوطنية القوية ، فخرجن متظاهرات سيرا على الأقدام الى منزل سعد زغلول باشا الذي أصبح حقا، وفي هذا الظرف، بيت الأمة.
وكذلك تحطمت الفوارق في التفكير والشعور والعمل بين الطبقات. وحرّك ملايين المصريين شعور واحد هو الشعور بالكرامة القومية المهانة، والثورة الصارخة لهذه الكرامة ، والحرص الخالص على التخلص من حكم الانجليز.

No comments:

Post a Comment